تُهيمن قضية الإفراج عن كبار الأسرى الفلسطينيين، الذين قضوا عقوداً خلف القضبان وتحمّلوا مسؤولية عمليات نوعية خلال الانتفاضة الثانية، على أجندة المفاوضات المتوقعة بين إسرائيل وحركة “حماس”. هذه القضية لا تمثل مجرد بند تفاوضي عادي، بل هي معركة إرادات بين رؤيتين متعارضتين تماماً: فلسطينياً، تُعتبر هذه الأسماء رموزاً للنضال ومكاسب يجب انتزاعها، وإسرائيلياً، تُصنف على أنهم “مطلوبون كبيرون” لا يمكن التفريط عنهم.
التفاصيل التفاوضية: القوائم والشروط المعلنة والمخفية
· المطلب الفلسطيني: تقدم حركة “حماس” بقائمة تضم 50 أسيراً، تشكل القيادات التاريخية والعسكرية نواتها الصلبة. وتركز بشكل خاص على ستة أسماء يُعتبر الإفراج عنها “الخط الأحمر” الذي قد تُوقف عنده أي صفقة، وهم: مروان البرغوثي، أحمد سعدات، عبد الله البرغوثي، ابراهيم حامد، عباس السيد، وحسن سلامة.
· المنطق الفلسطيني: تدفع “حماس” بمعياري الأقدمية في الأسر وكبار السن، إلى جانب المطالبة بالإفراج عن جميع معتقلي “قوات النخبة” في “كتائب القسام” الذين أُسروا خلال هجوم 7 أكتوبر 2023. هذا يمنح مطالبها بُعداً إنسانياً وأخلاقياً في الخطاب الفلسطيني.
· الرفض الإسرائيلي: على النقيض، ترفض إسرائيل بشكل قاطع ومبدئي المساس بهؤلاء الأسرى، الذين تضع عليهم “فيتو كبيراً” منذ صفقة شاليط عام 2011. ويصفهم المسؤولون الإسرائيليون، وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بـ”رموز الإرهاب”، مؤكدين أنهم “لن يكونوا على طاولة التفاوض”.
في خطوة تعكس حساسية الملف داخلياً، التزم نتنياهو صراحةً لوزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، زعيم حزب “السلطة اليهودية” اليميني المتطرف، بعدم الإفراج عن هؤلاء الأسرى. هذه الضمانات تهدف إلى تهدئة شركاء الائتلاف الحكومي ومنع انهياره، لكنها في الوقت نفسه تقيد حركة نتنياهو التفاوضية وتضع سقفاً لا يمكنه تجاوزه.
من هم رموز الاختلاف؟ نظرة على أبرز الأسماء المطروحة
1. مروان البرغوثي (فتح): أكثر من مجرد أسير، هو ظاهرة سياسية. يُنظر إليه كزعيم فلسطيني جامع ومرشح أقوى لخلافة الرئيس محمود عباس. حكمه بـ5 مؤبدات مرتبط بفترة الانتفاضة الثانية، حيث اتهمته إسرائيل بقيادة “كتائب شهداء الأقصى”. بقاؤه في السجن يُضعف تيار “فتح” ويعزز من مكانته كـ”نلسون مانديلا فلسطين”. إطلاق سراحه سيكون زلزالاً سياسياً داخلياً.
2. عبد الله البرغوثي (حماس): “المهندس” الأسطوري لـ”كتائب القسام”، والمحكوم بـ67 مؤبداً (أطول حكم في التاريخ الإسرائيلي). تنتسب إليه إسرائيل عمليات أسفرت عن مقتل 66 إسرائيلياً. يمثل رمزاً للكفاح العسكري والإصرار، واستبعاده من صفقة شاليط جعله أيقونة للصمود.
3. إبراهيم حامد (حماس): الذي توصفه إسرائيل بأنه “أخطر أسير” لديها، والمحكوم بـ54 مؤبداً. تُنسب إليه مسؤولية التخطيط لعمليات كبرى مثل هجوم “شيفيلد” والجامعة العبرية. اعتقاله في 2006 كان إنجازاً استخباراتياً كبيراً لإسرائيل.
4. أحمد سعدات (الجبهة الشعبية): الأمين العام للجبهة، وأرفع مسؤول تعتقله إسرائيل. اعتقاله من سجن أريحا عام 2006 تحت الوصاية الأمريكية-البريطانية كان حدثاً دراماتيكياً. يمثل رمزاً لفصيل يساري له تاريخ نضالي طويل.
5. عباس السيد (حماس): القائد الميداني في طولكرم، والمحكوم بـ35 مؤبداً بتهمة قيادة هجوم فندق “بارك” الدامي.
6. حسن سلامة (حماس): أحد أبرز مؤسسي “كتائب القسام”، والمحكوم بـ46 مؤبداً. تنتسب إليه إسرائيل سلسلة هجمات متتالية في التسعينيات. حتى من سجنه، يُصدر كتاباً (“الحافلات تحترق”) مما يظهر تأثيره المستمر.
التداعيات المحتملة: لماذا هذا الملف شائك إلى هذه الدرجة؟
· داخل إسرائيل: أي تفريط في هؤلاء الأسرى سيُشعل عاصفة سياسية وشعبية حادة. اليمين المتطرف سيعتبره انهياراً لأحد “الثوابت الأمنية”، وقد يهدد استقرار الحكومة. المشاعر العامة لن تتقبل الإفراج عن من تُصورهم الإعلام كـ”أبطال” من جانب خصم مثل “حماس”.
· على طاولة المفاوضات: هذا البند هو “صخرة الاصطدام” الحقيقية. إصرار “حماس” قد يعطل تماماً إمكانية الوصول لاتفاق، خاصة في ظل الرفض الإسرائيلي المبدئي المدعوم بضمانات حكومية.
· على الساحة الفلسطينية: نجاح “حماس” في تحرير هذه الرموز سيمنحها رصيداً سياسياً وشعبياً هائلاً، ويعزز موقعها كفاعل رئيسي قادر على انتزاع مكاسب حتى من موقف ضعف ظاهري. كما سيعيد ترتيب الخريطة السياسية الداخلية، خاصة مع تحرر شخصية جامحة مثل مروان البرغوثي.
قضية الأسرى الكبار تتجاوز مفهوم “تبادل الأسرى” التقليدي لتدخل في صميم الصراع على الرواية التاريخية والشرعية السياسية والذاكرة الجمعية. إنها معركة على الرموز، والإفراج عن أي من هذه الأسماء لن يكون مجرد نقل لشخص من السجن إلى الحرية، بل سيكون حدثاً سياسياً مؤثراً يترك بصمته على مستقبل الصراع لسنوات قادمة.